مروءة فتاة

   في صباح أحد أيام الخريف، وكان الجوّ مكفهرًّا قاتمًا، عندما هبّت عاصفة هوجاء، وكان في اليمّ، ساعتئذٍ، مركب قرب إحدى الجزر المزروعة في ذلك المحيط الجبّار، فأخذت الأمواج العاتية القاسية تتلاعب به وتتقاذفه غير عابئة بحياة من فيه من النوتيّين الذين ضمّتهم جوانبه وطوّح بهم نكد الطالع إلى جوار صخرة، عجزت زنودهم المفتولة القويّة عن تجنّبها، فاصطدم بها المركب اصطدامًا عنيفًا تسبّب بشطره شطرين: فكان الشطر الأوّل من نصيب الأمواج الهائجة، أمّا الشطر الثاني فارتطم بتلك الصخرة ورسا عليها مترجرجًا؛ فتعلّق به الناجون من البحر وتمكّنوا من الصعود إلى أعلاه وأخذوا يُشيحون بأيديهم ومناديلهم، لعلّ أحدًا من قاطني الجزر التي تبعد ميلًا عن تلك الصخرة،  تدفعه حميّته ومروءَته إلى مدّ يد العون وإنقاذهم.

   لم تكتفِ اللّجج والأمواج العاتية بحظّها من الغنيمة، إذ ظلّت تهاجم تلك الصخرة الراسي فوقها شطر المركب المنكوب، معرّضةً من عليها للهلاك، حتّى كاد اليأس يستولي على قلوبهم الجريئة؛ وكان على سطح إحدى تلك الجزر منارة تهدي الضالّين ومنكودي الطالع، وكان القيّم عليها رجل له بنت وحيدة اسمها "غريس" لم تنم في تلك الليلة العاصفة الغضوب إلّا نوم الطيور، فكانت تصغي قلقة إلى أحاديث الأمواج الخشنة الصاخبة ودويّ وصفير الرياح العازفة عزيف الجن؛ وعندما انبلج الصبح رفعت رأسها وأخذت تتلفّت إلى الجوّ المكفهرّ الملبّد بالغيوم واليمّ المزبد الهائج، فحانت منها التفاتة وشاهدت على الصخرة القريبة أشباحًا مبهمة تتحرّك، فهبّت للحال متحمّسة لاستطلاع الخبر وفتحت نافذة غرفتها وذهلت واستولت عليها قشعريرة، هي قشعريرة النجدة، عندما سمعت أصوات الاستغاثة ورأت أناسًا متسلّقين أعالي الصواري والأمواج المرغية البيضاء تهاجمهم، بدون رحمة، مهدّدةً أيّاهم بالموت المعجّل، فقفزت من سريرها وجرت مسرعة إلى أبيها، فأوقفته على جليّة الخبر وحفّزته إلى الإسراع في إنقاذ هؤلاء البائسين، إلّا أنّ هذا الأب لم يهبّ ولم يُصغ إلى رغبة ابنته الفتاة بل توانى عن النجدة لضعف في عزيمته، سببه سنّه المتقدّمة، ولكن "غريس" لم تبالي بتباطؤ أبيها وكلامه المثبط للهمّة، إذ صاحت صيحةً قويّةً في وجهه حرّكت في فؤاده عاطفة الرحمة والإنسانيّة، فهبّ عندئذ مجيبًا داعي المروءة، غير مبال بالخطر الذي قد يحدق به في تلك الساعة الصعبة الرهيبة، وهرع إلى زورقه المكين فلحقت به ابنته فردعها خوفًا عليها، فلم ترتدع وأصرّت على مرافقته قائلةً:

- وأيم الحقّ، لن أتركك وحدك تعارك هذه العوامل الطبيعيّة الجبّارة، إذ إنّها يمكن أن تصرعك وعندئذ لن أتمكّن من العيش والبقاء وحدي هنا، أراقب هؤلاء الرجال يحيق بهم شبح الموت لأنّ الأمواج على وشك جرّهم إلى أعماق اليمّ؛ إنّي سأرافقك مهما كلّفني الأمر، فأمام هذا المشهد المأساويّ تهون عليّ كلّ تضحية حتّى لو كانت حياتي نفسها.

    وإزاء تصلّبها لم يعد يجرأ أبوها على مقاومتها ومعارضتها، وأبحر الاثنان في زورق المنارة، المعَدّ لمثل تلك الساعة، تناولت "غريس" مجذافًا واستولى الأب على الآخر وأخذا يجذّفان بقوّة لا تعرف الملل، متّجهين صوب الصخرة، في حين ازداد البحر هياجًا وعتوًّا، وأخذت الأمواج تهاجم المنجدين حتّى خامرهما الشكّ في احتمال بلوغ هدفهما، ولكن من دون يأس، وبقيا مجاهدَين جهاد الأبطال إلى أن وصلا إلى قرب الصخرة، وهناك اشتدّ غضب العاصفة وهُدّد زورق الإنقاذ بالسحق لولا أنّ مهارة الصبيّة وقوّتها المقرونتين بالشجاعة حالتا دون ذلك؛ وتمكّن الأب من تسلّق الصخرة بعد أن حاول عدّة مرّات، بينما "غريس" بقيت تُدير دفّة الزورق بحنكة تثير الإعجاب، مبعدة عن أبيها شرّ العاصفة العنيدة المثابرة على هجومها بدون توانٍ، ثمّ أخذ الأب يقود النوتيّين الذين خارت قواهم، واحدًا واحدًا إلى الزورق، حتّى انتهى من ذلك العمل وآب إلى مكانه ليخفّف وطء التعب عن ابنته. وقفل الجميع راجعين إلى دار المنارة بعدما عانوا من هول المخاوف ما يشيّب الأطفال.

    هناك بدأت الفتاة "غريس" تُعنى بالبحّارين المنقَذين من براثن الحِمام، مبرهنة بمداواتها ومواساتها لهم، أنّها ممرّضة رحوم مثلما أثبتت أنّها بحّارة شجاعة؛ وواصلت الإشراف عليهم حتّى عادت إليهم قواهم التي خارت، وهدأ روعهم وتلاشت العواصف والرياح الزعازع، فاستطاعوا آنئذٍ العودة إلى بيوتهم.

   أمّا اسم "غريس" فسوف يبقى في الذكرى إلى الأبد، وقد بُني لها مزار على شاطىء البحر قريب من بيتها القديم يؤمّه الناس من كلّ حدب وصوب، ليروا تمثال تلك الفتاة ومثواها الأبديّ؛ وليس التمثال كبيرًا عاليًا إنّما هو كبير بمعناه، هو رمز ولسان ناطق عن عمل تلك الفتاة النبيل، وعلم للمروءة والإنسانيّة، إنّه تمثال حُفر في صخرة تمثّل امراة مضطجعة مستريحة، تمسك مجذافًا بيدها اليمنى، بثبات وعزم لا يلين.

                       معرّبة من اللغة الإنكليزيّة – بتصرّف -

                            بقلم يوسف س. نويهض